زلة لسان محافظ البصرة!

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
05/03/2011 06:00 AM
GMT



بات السيد محافظ البصرة أحد الشخصيات الشهيرة على موقع اليوتيوب بسبب تصريحاته التي عدت إهانة لأهالي البصرة. من الواضح أن الاحتجاجات على شخصه غطت على دوافعه الاصلية والموقف الذي وضع فيه . ولأنه اعتقد أنه ظلم ، وأوّلت كلماته وأعطيت تفسيرات ذهبت بعيداً ، فقد قام بتوضيحات جعلت منه ضحية لسانه من جديد ، فهو لم يضف شيئا غير لهجة البراءة، أما المضمون فقد ظل يطارده في شوارع البصرة كلها.
لقد أولى فرويد زلات اللسان أهمية خاصة ، وقال إنها تمثل التعابير المخزونة في اللاوعي، أو ما يحاول المرء أن يتفاداه فيخطئ فيه ويقع ضحيته ، وبكلمة تمثل هذه الزلات دوافعه الحقيقية رمزيا .
بإمكان المخطئ أن يسرع ويتخطى ورطته بالاعتذار أو التوضيح الذكي الذي يتصف بالمرونة والمراوغة. هذا ما خبره السياسيون ويفعلونه بنجاح ، لتغطي الحياة اليومية عليهم وعلى مليون خطأ آخر. لكن ما حصل أن المحافظ كان داخل تفاعل مجتمعي يتصف بالحماسة ، والحسّ العالي بالظلم ، بحيث باتت الكلمات تشبه القنابل ، حتى تعابير الوجه تصبح كلاماً مقروءاً تضاف الى الموقف لتعيد تجذيره وتديره إلى جانب واحد. تلك هي ورطة المحافظ التي لم يدركها جيدا، ومن هنا أضيف الخطأ الاول للسيد المحافظ الى توضيحه التالي فبات على الرجل أن يبلع كلماته ويختفي.
السيد المحافظ هو ضحية لسانه في موقف لم يختره ، ولم يحسن تلافي تبعاته . لكن إذا أمعنا النظر جيدا لوجدناه ، أيضا وأيضا، ضحية واقع أكبر بكثير منه ، ومن انجازاته البائسة . ضحية سياسات صاغها نظام سياسي دائخ من كثر المشكلات وما يقابلها من ضعف الارادة السياسية والمهنية.
أليس ما يثير الاستغراب أن السيد شلتاغ لم يختر من بين مئات الأمثلة على انضباطية الناس واحترامهم للقوانين المرعية غير عاهرات فرنسا؟
إذن هاهن العاهرات الفرنسيات يقفن بالدور احتراما للقانون على عكس مواطني شلتاغ الفوضويين الذين يحطمون ما يقع على طريقهم إذا ما خرجوا بمظاهرة مطلبية، وغير صبورين إذا ما وجدوا أنفسهم في موقف يستدعي وقوفهم ساعات من أجل إنهاء معاملة ادارية تافهة.
لماذا اختار السيد المحافظ هذا المثل؟ إذا ما قمنا بتحليل لغوي سجالي ، وهو ما قام به المواطنون أنفسهم ، فسنجد هذه الاحتمالات : إما أن المحافظ يفضل عاهرات فرنسا الملتزمات على فوضوية مواطنيه ، أو يهين مواطنيه بمثال عاهرات فرنسا، أو أنه يهين عاهرات فرنسا لأنهن عاهرات ويهين مواطنيه لأنهم قدموا مثالا على عهر يبزّ عهر الفرنسيات. على هذا النحو حاكم المواطنون محافظهم مع بعض التحسينات. بعض المواطنين سحبوا المحاكمة الى هذا السؤال التهكمي : ما أدراه بحالة العاهرات في فرنسا؟
إن أي سؤال مباشر ، يقابل كلاما بكلام ،يستدعي مساءلة تأخذ تعابيرها اللغوية من المستنقع الذي نزل اليه المحافظ كفرد تائه مذعور استجاب الى موقف معقد، وعبّرعنه بلغة وجدها على طرف لسانه.
على العكس من المحاكمة الاخلاقية التي واجه بها المواطنون محافظهم ، وفيها ما فيها من نغز وغمز وتشهير، أدرك أنا أن المحافظ إنما زلّ لسانه ، بيد أنه زلّ وهو يقف على مستنقع الزلل الكبير الذي هوت اليه مدينة البصرة بالذات. هذا هو الفرق . من الوجهة التي أجادل فيها ، أرى أن حتى الكلمات التي اختارها السيد شلتاغ ، هذا الخطأ اللساني الذي كان من الممكن أن يعتذر عنه ببساطة ، فاختار أن يكرره في توضيحاته ، هو لغة رمزية مصممة بالوضعية السياسية التاريخية التي تتحكم اليوم بنا. 
إن أسوأ تشنيع في البصرة ، منذ أن برزت سيوف "الحق" الصدامي لتقطع رقاب النساء ، ليكملها فرسان الفضيلة الجدد الذين قتلوا عشرات النساء في البصرة بتهم اخلاقية ، مرتبطة بالتقييم المتدني لشخصية المرأة الذي يتفحص  لباسها ومظهرها واستقلاليتها. عندما نمعن النظر الى المستوى الاخلاقي الذي وصلت اليه البصرة على يد فرسان الفضيلة الجدد نجد أن هؤلاء غطوا على انتهاكاتهم السياسية والمالية بالوقوف من ذبح النساء متفرجين . الفعل الأخير وحده مثّل رجولتهم ، وقد تحول بسياسة التواطؤ المعتمدة في البصرة الى لغة كاملة ، بالأحرى الى خطاب ، ثم وجد في فم شلتاغ ترجمته المهينة .
دعونا نذكّر ههنا عسى أن تنفع الذكرى : فقبل "صولة الفرسان" كانت الاحزاب والحركات السياسية المتنفذة والمتصارعة في المدينة قد وقعت وثيقة شرف في عزّ الانباء عن ارتفاع قتلى النساء. كان من المتوقع أن هؤلاء الفاهمين سيشيرون في وثيقتهم الى هذه الظاهرة المخيفة ، والى تقديم تعهد بمنعها . بيد أنهم تجاهلوا ما كان يجري واكتفوا بما يضمن مصالحهم ليس الا .
كانت البصرة قد ضجّت من مقاتل الطائفية السياسية ، ومن التصفيات والسرقات التي تقف وراءها مصالح اقتصادية وتجارية لبست لبوس الدين والاخلاق . واقع الحال أن البصرة مدينة غنية ، والمدن الغنية تحتاج الى سياسة عقلانية بدلا من القتل واللصوصية المفضوحة. هذا ما انتبه اليه السياسيون الجدد ، ووجدوا أن بالامكان عقد هدنة طويلة ما بينهم لتبادل المنافع والنفوذ بدلا من العدوان.. هدنة متحاصصين وثعالب ومتخوفين من استشراء الظلم والنهب حتى حدود الفضيحة.
تلك هي التوصلات الذكية التي انتهى عندها اولئك الذين تحكموا بالمدينة قبل "صولة الفرسان" ، بيد أنهم وقد مارسوا العقلانية الاقتصادية وتقاسم المغانم، لم ينبسوا بكلمة عن قتل النساء حتى بعد أن تجاوز رقم المغدورات الأربعين ، وكان في حالة صعود على أية حال.
إن البعض ممن عاب الفاظ المحافظ ، وطالب بتغييره ، محسوب على تلك الوثيقة المنسية التي نذكّر بها الآن. أنا لا ألوم هذا البعض على وقوفه ضد اهانات المحافظ ، لكنني أذكره بأن قاموس محافظه اللفظي هو نتاج لسياسة ذكورية عاثت في المدينة طيلة السنوات السابقة. إن تمثيل ما هو سيء بالعهر كان يمكن أن يحسب على نوع من الحكمة لو افتى بها رجال اتصفوا بالحكمة، فالعهر ليس ما تفعله العاهرات فقط ، لكن أن يقوم هؤلاء بنهب المدينة ثم يوجهون رؤوسهم للبارئ عز وجل.. أن يستولوا على مقدرات المدينة ويمارسوا اكثر المحرمات سفالة وكلهم فخر لأن مدينتهم فجّرت الخمارات وقتلت النساء، فهؤلاء محسوبون على مرضى "القاعدة"، وأي مرضى يحتاج المجتمع الى الحجر عليهم . 
الفاظ محافظ البصرة – الذي علمت وأنا اكتب هذا الموضوع أنه استقال – هي ضرب من تدوير لفظي لأحكام أخلاقية سائدة في مدينة نكبت بالمتخلفين والمصابين بالشيزوفرينيا الأخلاقية.. ضرب من اعادة انتاج رمزي للمواقف الاخلاقية التي تدفع بالغضب الشعبي الى النساء والاقليات من مسيحيين وصابئة، وترك مقدرات الناس بيد النهابين واللصوص ومزوري الكتب الرسمية. 
لم يسعف الحظ المحافظ في اختيار الفاظه لأنه لم يمتلك غيرها للدفاع عن ادارته الفاسدة ، وهو ما يعكس تدريبه السياسي والاخلاقي. إما كونه اختار عاهرات فرنسا وليس بلجيكا أو روسيا أو امريكا ، فهذا التفصيل جاء بسبب خياله الخصب.